فصل: تفسير الآيات (243- 247):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (235):

{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)}
{ولا جناح عليكم فيما عرَّضتم به} أَيْ: تكلَّمتم به من غير تصريح، وهو أن يُضمِّن الكلام دلالةً على ما يريد {من خطبة النساء} أَي: التماس نكاحهنَّ في العدَّة. يعني: المتوفَّى عنها الزَّوج يجوز التعريض بخطبتها في العدَّة، وهو أن يقول لها وهي في العدَّة: إنَّك لجميلةٌ، وإنَّك لنافقةٌ، وإنَّك لصالحةٌ، وإنَّ من عزمي أَنْ أتزوَّج، وما اشبه ذلك {أو أَكْنَنْتُمْ} أسررتم وأضمرتم {في أنفسكم} من خطبتهنَّ ونكاحهنَّ {علم الله أنكم ستذكرونهنَّ} يعني: الخطبة {ولكن لا تواعدوهن سراً} أَيْ: لا تأخذوا ميثاقهنَّ أن لا ينكحن غيركم {إلاَّ أن تقولوا قولاً معروفاً} أَي: التَّعرض بالخطبة كما ذكرنا {ولا تعزموا عقدة النكاح} أيْ: لا تصححوا عقدة النِّكاح {حتى يبلغ الكتاب أجله} حتى تنقضي العدَّة المفروضة {واعلموا أنَّ الله يعلم ما في أنفسكم} أَيْ: مُطَّلعٌ على ما في ضمائركم. {فاحذروه} فخافوه.

.تفسير الآيات (236- 242):

{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)}
{لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهنَّ} نزلت في رجلٍ من الأنصار تزوَّج امرأة ولم يسمِّ لها مهراً، ثمَّ طلَّقها قبل أن يمسَّها، فأعلم الله تعالى أنَّ عقد التَّزويج بغير مهرٍ جائز، ومعناه: لا سبيل للنِّساء عليكم إنْ طلقتموهنَّ من قبل المسيس والفرض بصداقٍ ولا نفقة، وقوله: {أو تفرضوا لهنَّ فريضة} أَيْ: تُوجبوا لهنَّ صداقاً {ومتعوهنَّ} أَيْ: زوِّدوهنَّ وأعطوهنَّ من ما لكم ما يتمتَّعْنَ به، فالمرأة إذا طُلِّقت قبل تسمية المهر وقبل المسيس فإنَّها تستحق المتعة بإجماع العلماء، ولا مهرَ لها و{على الموسع} أَي: الغنيِّ الذي يكون في سعةٍ من غناه {قدره} أَيْ: قدر إمكانه {وعلى المقتر} الذي في ضيق من فقره قدر إمكانه. أعلاها خادم، وأوسطها ثوب، وأقلُّها أقلُّ ماله ثمن. قال الشافعيُّ: وحسنٌ ثلاثون درهماً. {متاعاً} أَيْ: متعوهنَّ متاعاً {بالمعروف} بما تعرفون أنَّه القصد وقدر الإِمكان {حقاً} واجباً {على المحسنين}.
{وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهنَّ} هذا في المُطلَّقة بعد التَّسمية وقبل الدُّخول، حكم الله تعالى لها بنصف المهر، وهو قوله: {فنصف ما فرضتم} أَيْ: فالواجبُ نصف ما فرضتم {إلاَّ أن يعفون} أَي: النِّساء، أَيْ: إلاَّ أَنْ يتركن ذلك النِّصف، فلا يُطالبن الأزواج به {أو يعفو الذي بيده عقده النكاح} أَي: الزَّوج لا يرجع في شيءٍ من المهر، فيدع لها المهر الذي وفَّاه عملاً {وأن تعفو} خطابٌ للرِّجال والنِّساء {أقرب للتقوى} أَيْ: أدعى إلى اتِّقاء معاصي الله؛ لأنَّ هذا العفو ندبٌ، فإذا انتدب المرء له عُلم إنَّه- لما كان فرضاً- أشدُّ استعمالاً {ولا تنسوا الفضل بينكم} لا تتركوا أن يتفضَّل بعضكم على بعض. هذا أمرٌ للزَّوج والمرأة بالفضل والإِحسان.
{حافظوا على الصلوات} بأدائها في أوقاتها {والصلاة الوسطى} أَيْ: صلاة الفجر، لأنَّها بين صلاتي ليلٍ وصلاتي نهارٍ أفردها بالذِّكر تخصيصاً {وقوموا لله قانتين} مُطيعين.
{فإن خفتم فرجالاً} أَيْ: إن لم يمكنكم أن تصلُّوا موفِّين للصَّلاة حقًَّها فصلُّوا مُشاةً على أرجلكم {أو ركباناً} على ظهور دوابِّكم، وهذا في المطاردة والمسايفة {فإذا أمنتم فاذكروا الله} أَيْ: فصلُّوا الصَّلوات الخمس تامَّةً بحقوقها {كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون} كما افترض عليكم في مواقيتها.
{والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية} فعليهم وصيةٌ {لأزواجهم} لنسائهم، وهذا كان في ابتداء الإِسلام لم يكن للمرأة ميراثٌ من زوجها، وكان على الزَّوج أن يُوصي لها بنفقة حولٍ، فكان الورثة ينفقون عليها حولاً، وكان الحول عزيمةً عليها في الصَّبر عن التَّزوُّج، وكانت مُخيَّرة في أن تعتدَّ إن شاءت في بيت الزَّوج، وإن شاءت خرجت قبل الحول وتسقط نفقتها، فذلك قوله: {متاعاً إلى الحول} أَيْ: متعوهنَّ متاعاً.
يعني: النَّفقة {غير إخراجٍ} أَيْ: من غير إخراج الورثة إيَّاها {فإن خرجن فلا جناح عليكم} يا أولياء الميِّت في قطع النَّفقة عنهنَّ، وترك منعها عن التَّشوف للنَّكاح والتَّصنُّع للأزواج، وذلك قوله: {فيما فعلن في أنفسهنَّ من معروف} وهذا كلُّه منسوخٌ بآية المواريث وعدَّةِ المتوفى عنها زوجها.
{وللمطلقات متاعٌ بالمعروف حقاً على المتقين} لمَّا ذكر الله تعالى متعة المُطلَّقة في قوله: {حقاً على المحسنين} قال رجلٌ من المسلمين: إنْ أحسنتُ فعلتُ، وإن لم أُرد ذلك لم أفعل، فأوجبها الله تعالى على المتقين. الذين يتَّقون الشِّرك.
{كذلك يبين الله لكم آياته} شبّه اللَّهُ البيانَ الذي يأتي بالبيان الذي مضى في الأحكام التي ذكرها.

.تفسير الآيات (243- 247):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)}
{ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم} ألم تعلم، ألم ينته علمك إلى هؤلاء، وهم قومٌ من بني إسرائيل خرجوا من بلدتهم هاربين من الطَّاعون، حتى نزلوا وداياً فأماتهم الله جميعاً، فذلك قوله: {حذر الموت} أَيْ: لحذر الموت {فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم} مقتهم الله على فرارهم من الموت، فأماتهم عقوبةً لهم ثمَّ بعثهم ليستوفوا بقيَّة آجالهم {إنَّ الله لذو فضل على الناس} أَيْ: تفضُّلٍ عليهم بأَنْ أحياهم بعد موتهم.
{وقاتلوا في سبيل الله} يحرِّض المؤمنين على القتال {واعلموا أنَّ الله سميعٌ} لما يقوله المُتعلِّل {عليمٌ} بما يضمره، فإيَّاكم والتَّعلُّلَ.
{مَنْ ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً} أَيْ: مَنْ ذا الذي يعمل عمل المُقرض، بأن يقدِّم من ماله فيأخذ أضعاف ما قدَّم، وهذا استدعاءٌ من الله تعالى إلى أعمال البرِّ {والله يقبض} أَيْ: يُمسك الرِّزق على مَنْ يشاء {ويبسط} أي: ويوسِّع على من يشاء.
{ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل} أَي: إلى الجماعة {إذ قالوا لنبيٍّ لهم ابعث لنا ملكاً} سألوا نبيَّهم أشمويل عليه السَّلام ملكاً تنتظم به كلمتهم، ويستقيم حالهم في جهاد عدوِّهم، وهو قوله: {نقاتل في سبيل الله} {فقال} لهم ذلك النَّبيُّ: {هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا} أَيْ: لعلَّكم أَنْ تجبنوا عن القتال {قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله} أَيْ: وما يمنعنا عن ذلك؟ {وقد أخرجنا من ديارنا} {و} أُفردنا من {أبنائنا} بالسِّبي والقتل. يعنون: إذا بلغ الأمر منَّا هذا فلابد من الجهاد. قال الله تعالى: {فلما كتب عليهم القتال تولوا إلاَّ قليلاً منهم} وهم الذين عبروا النَّهر، ويأتي ذكرهم.
{وقال لهم نبيُّهم إنَّ الله قد بعث لكم طالوت ملكاً} أَيْ: قد أجابكم إلى ما سألتم من بعث الملك {قالوا} كيف يملك علينا؟ وكان من أدنى بيوت بني إسرائيل، ولم يكن من سبط المملكة، فأنكروا ملكه وقالوا: {ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال} أَيْ: لم يُؤت ما يتملَّك به الملوك {قال} النبيُّ: {إنَّ الله اصطفاه عليكم} اختاره بالملك {وزاده بسطة في العلم والجسم} كان طالوت يومئذٍ أعلم رجلٍ في بني إسرائيل وأجمله وأتمَّه. والبسطة: الزِّيادة في كلِّ شيء {والله يؤتي ملكه من يشاء} ليس بالوراثة {والله واسع} أَيْ: واسع الفضل والرِّزق والرَّحمة، فسألوا نبيَّهم على تمليك طالوت آيةً.

.تفسير الآيات (248- 252):

{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)}
{قال لهم نبيُّهم إنَّ آية ملكه أن يأتيكم التابوت} وكان تابوتاً أنزله الله تعالى على آدم عليه السَّلام فيه صور الأنبياء عليهم السَّلام، كانت بنو إسرائيل يستفتحون به على عدوِّهم، فغلبتهم العمالقة على التَّابوت، فلمَّا سألوا نبيَّهم البيِّنة على ملك طالوت قال: إنَّ آية ملكه أن يردَّ الله تعالى التَّابوت عليكم، فحملت الملائكة التَّابوت حتى وضعته في دار طالوت، وقوله: {فيه سكينة من ربكم} أَيْ: طمأنينةٌ. كانت قلوبهم تطمئنُّ بذلك، ففي أيِّ مكانٍ كان التَّابوت سكنوا هناك، وكان ذلك من أمر الله تعالى {وبقيةٌ ممَّا ترك آل موسى وآل هارون} أَيْ: تركاه هما، وكانت البقيَّة نعلي موسى وعصاه وعمامة هارون، وقفيزاً من المنِّ الذي كان ينزل عليهم {تحمله الملائكة} أَي: التَّابوت. {إنَّ في ذلك لآية} أَيْ: في رجوع التَّابوت إليكم علامة أنَّ الله قد ملَّك طالوت عليكم {إن كنتم مؤمنين} أَيْ: مصدِّقين.
{فلما فصل طالوت بالجنود} أَيْ: خرج بهم من الموضع الذي كانوا فيه إلى جهاد العدوِّ {قال} لهم طالوت: {إنَّ الله مبتليكم} أَيْ: مُختبركم ومُعاملكم مُعاملة المختبر {بنهرٍ} أَيْ: بنهر فلسطين ليتميِّز المحقِّق ومَنْ له نيَّةٌ في الجهاد من المُعذِّر {فمن شرب منه} أَيْ: من مائه {فليس مني} أَيْ: من أهل ديني {ومن لم يطعمه} لم يذقه {فإنَّه مني إلاَّ مَن اغترف غرفة بيده} أَيْ: مرَّةً واحدةً، أَيْ: أخذ منه بجرَّةٍ أو قِربةٍ وما أشبه ذلك مرَّةً واحدةً، قال لهم طالوت: مَنْ شرب من النَّهر وأكثر فقد عصى الله، ومن اغترف غرفة بيده أقنعته، فهجموا على النَّهر بعد عطشٍ شديدٍ، ووقع أكثرهم في النَّهر وأكثروا الشُّرب، فهؤلاء جَبُنوا عن لقاء العدو، وأطاع قومٌ قليلٌ عددهم فلم يزيدوا على الاغتراف، فقويت قلوبهم وعبروا النَّهر، فذلك قوله: {فشربوا منه إلاَّ قليلاً منهم} وكانوا ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً {فلما جاوزه} أَي: النَّهر {هو والذين آمنوا معه قالوا} يعني: الذين شربوا وخالفوا أمر الله تعالى: {لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال} يعني: القليل الذين اغترفوا وهم {الذين يظنون} أَيْ: يعلمون {أنهم ملاقو الله} أَيْ: راجعون إليه: {كم مِنْ فئة قليلة} أَيْ: جماعةٍ قليلةٍ {غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} بالمعونة والنَّصر.
{ولما برزوا} أَيْ: خرجوا {لجالوت وجنوده} أَيْ: لقتالهم {قالوا ربنا أفرغ} أصببْ {علينا صبراً وثبت أقدامنا} بتقوية قلوبنا.
{فهزموهم} فردُّوهم وكسروهم {بإذن الله} بقضائه وقدره {وقتل داود} النَّبيُّ، وكان في عسكر بني إسرائيل {جالوت} الكافر {وآتاه الله الملك} أعطى الله داود ملك بني إسرائيل {والحكمة} أَيْ: جمع له الملك والنُّبوَّة {وعلَّمه مما يشاء} صنعة الدُّروع ومنطق الطَّير {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض} لولا دفع الله بجنود المسلمين لغلب المشركون على الأرض، فقتلوا المؤمنين وخرَّبوا البلاد والمساجد.
{تلك آيات الله} أَيْ: هذه الآيات التي أخبرتك بها آيات الله، أَيْ: علامات توحيده {وإنك لمن المرسلين} أَيْ: أنت من هؤلاء الذين قصصتُ عليك آياتهم.

.تفسير الآيات (253- 255):

{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)}
{تلك الرسل} أَيْ: جماعة الرُّسل {فضلنا بعضهم على بعض} أَيْ: لم نجعلهم سواءً في الفضيلة وإن استووا في القيام بالرِّسالة {منهم مَنْ كلَّم الله} وهو موسى عليه السَّلام {ورفع بعضهم درجات} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم أُرسل إلى النَّاس كافَّةً {وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس} مضى تفسيره، {ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم} أَيْ: من بعد الرُّسل {من بعد ما جاءتهم البينات} من بعد ما وضحت لهم البراهين {ولكن اختلفوا فمنهم مَنْ آمن} ثبت على إيمانه {ومنهم مَنْ كفر} كالنَّصارى بعد المسيح اختلفوا فصاروا فِرقاً، ثمَّ تحاربوا {ولو شاء الله ما اقتتلوا} كرَّر ذكر المشيئة باقتتالهم تكذيباً لمن زعم أنَّهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم، لم يجرِ به قضاءٌ من الله {ولكنَّ الله يفعل ما يريد} فيوفِّقُ مَنْ يشاء فضلاً، ويخذل من يشاء عدلاً.
{يا أيها الذين آمنوا أنفقوا ممَّا رزقناكم} أَي: الزَّكاة المفروضة، وقيل: أراد النَّفقة في الجهاد {من قبل أن يأتي يومٌ لا بيع فيه} يعني: يوم القيامة. يعني: لا يؤخذ في ذلك اليوم بدَلٌ ولا فداءٌ {ولا خلة} ولا صداقةٌ {ولا شفاعة} عمَّ نفي الشَّفاعة لأنَّه عنى الكافرين بأنَّ هذه الأشياء لا تنفعهم، ألا ترى أنَّه قال: {والكافرون هم الظالمون} أَيْ: هم الذين وضعوا أمر الله في غير موضعه.
{الله لا إله إلاَّ هو الحي} الدَّائم البقاء {القيوم} القائم بتدبير أمر الخلق في إنشائهم وأرزاقهم {لا تأخذه سنة} وهي أوَّل النُّعاس {ولا نوم} وهو الغشية الثَّقيلة {له ما في السموات وما في الأرض} مِلكاً وخلقاً {مَنْ ذا الذي يشفع عنده إلاَّ بإذنه} أَيْ: لا يشفع عنده أحدٌ إلاَّ بأمره، إبطالاً لزعم الكفَّار أنَّ الأصنام تشفع لهم {يعلم ما بين أيديهم} من أمر الدُّنيا {وما خلفهم} من أمر الآخرة. {ولا يحيطون بشيء من علمه} أَيْ: لا يعلمون شيئاً من معلوم الله تعالى: {إلاَّ بما شاء} إلاَّ بما أنبأ الله به الأنبياء وأطلعهم عليه {وسع كرسيه السموات والأرض} أي: احتملهما وأطاقهما. يعني: ملكه وسلطانه. وقيل: هو الكرسيُّ بعينه، وهو مشتمل بعظمته على السَّموات والأرض. وروي عن ابن عباس أنَّ كرسيه علمه. {ولا يَؤُوْدُهُ} أَيْ: لا يُجهده ولا يُثقله {حفظهما} أَيْ: حفظ السَّموات والأرض {وهو العليُّ} بالقدرة ونفوذ السُّلطان عن الأشباه والأمثال {العظيم} عظيم الشَّأن.